الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }

فيه ٱثنتا عشرة مسألة: الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ } التّحِيّة تفعلة من حييت الأصل تَحْيِيَة مثل تَرْضية وتَسْمِية، فأدغموا الياء في الياء. والتحية السلام. وأصل التحية الدعاء بالحياة. والتحيات لله، أي السلام من الآفات. وقيل: المُلْك. قال عبد الله بن صالح العِجلِيّ: سألت الكسائي عن قوله «التحيات لله» ما معناه؟ فقال: التحيات مثل البركات فقلت: ما معنى البركات؟ فقال: ما سمعت فيها شيئاً. وسألت عنها محمد بن الحسن فقال: هو شيء تعبّد الله به عباده. فقدِمت الكوفة فلقيت عبد الله بن إدريس فقلت: إني سألت الكسائي ومحمداً عن قوله «التحيات لله» فأجاباني بكذا وكذا فقال عبد الله بن إدريس: إنهما لا علم لهما بالشّعر وبهذه الأشياء؟ٰ التحية الملك وأنشد:
أَؤمّ بها أبا قابوس حتى   أنِيخَ على تحيته بجنْدِي
وأنشد ابن خُوَيْز مَنْدَاد:
أَسِير به إلى النّعمان حتى   أُنيخ على تحيته بجُندِي
يريد على ملكه. وقال آخر:
ولَكُلُّ ما نال الفتى   قد نِلْتُه إلاَّ التَّحِيّة
وقال القتبي: إنما قال «التحيات لله» على الجمع لأنه كان في الأرض ملوك يُحَيَّوْن بتحياتٍ مختلفات فيقال لبعضهم: أبَيْتَ اللّعْنَ، ولبعضهم: ٱسْلَم وٱنْعَم، ولبعضهم: عِش ألف سنة. فقيل لنا: قولوا التحيات لله أي الألفاظ التي تدل على المُلْك، ويكنى بها عنه لله تعالى. ووجه النظم بما قبل أنه قال: إذا خرجتم للجهاد كما سبق به الأمر فَحُييتم في سفركم بتحية الإسلام، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً، بل ردوا جواب السلام فإن أحكام الإسلام تجري عليهم. الثانية ـ واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها فروى ٱبن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس والردّ على المُشَمِّت. وهذا ضعيف إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك، أمّا الرد على المشمِّت فمما يدخل بالقياس في معنى ردّ التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. والله أعلم. وقال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: وقد يجوز أن تُحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب فمن وُهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردّها وإن شاء قبِلها وأثاب عليها قيمتها. قلت: ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة، قالوا: التحية هنا الهدية لقوله تعالىٰ: { أَوْ رُدُّوهَآ } ولا يمكن ردّ السلام بعينه. وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية، فأمر بالتعويض إن قبِل أو الردّ بعينه، وهذا لا يمكن في السلام. وسيأتي بيان حكم الهبة للثواب والهدية في سورة «الروم» عند قوله:وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً } [الروم: 39] إن شاء الله تعالىٰ. والصحيح أن التحية هٰهنا السلام لقوله تعالىٰ:وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7