الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }

تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكاً عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم، أو هو تفريع عن قولهومن أصدق من الله حديثاً } النساء 87. وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قولهفقاتل في سبيل الله } في سورة النساء 84. والاستفهام للتعجيب واللَّوم. والتعريف في { المنافقين } للعهد، و { فئتين } حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله، الذي هو التوبيخ، فعلم أنّ محلّ التوبيخ هو الانقسام { في المنافقين } متعلّق بفئتين لتأويله بمعنى «منقسمين»، ومعناه في شأن المنافقين، لأنّ الحكم لا يتعلّق بذوات المنافقين. والفئة الطائفة. وزنها فِلَة، مشتقّة من الفيء وهو الرجوع، لأنّهم يَرجع بعضهم إلى بعض في شؤونهم. وأصلها فَيّءٌ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوّضوا عنها الهاء. وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلاّ انقسام في حالة من حالتين، والمقام للكلام في الإيمان والكفر، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم. قيل نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أُحد عبد الله بن أبَيّ وأتباعه، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك. وفي «صحيح البخاري» عن زيد بن ثابت قال رجع ناس من أصحاب النبي من أُحد، وكان الناس فيهم فريقين، فريق يقول اقُتُلْهم، وفريق يقول لا، فنزلت «فما لكم في المنافقين فئتين»، وقال «إنّها طَيْبَة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة» أي ولَمْ يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم جرياً على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام. فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم. وعن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان، وهاجروا إلى المدينة، ثمّ استأذنوا في الرجوع إلى مكة، ليأتوا ببضاعة يتّجرون فيها، وزعموا أنّهم لم يزالوا مؤمنين، فاختلف المسلمون في شأنهم أهم مشركون أم مسلمون. ويبيّنه ما روي عن ابن عباس أنّها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين، ليكونوا في أمن من تعرّض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها، وأنّه قد بلغ المسلمين أنّهم خرجوا من مكة في تجارة، فقال فريق من المسلمين نركب إليهم فنقاتلهم، وقال فريق كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام، فاختلف المسلمون في ذلك، ولم يغيّر رسول الله على أحد من الفريقين حتّى نزلت الآية. وعن الضّحاك نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين، وهم الذين قال الله تعالى فيهم

السابقالتالي
2