الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }

استئناف ابتدائي للتّنويه بهم، فهي فذلكة ثانية، لأنّ الفذلكة الأولى راجعة إلى ما في الجمل السابقة من الهدى وهذه راجعة إلى ما فيها من المهديّين. واسم الإشارة لزيادة الاعتناء بتمييزهم وإخطار سيرتهم في الأذهان. والمشار إليهم هم المعيَّنون بأسمائهم والمذكورون إجمالاً في قولهومن آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم } الأنعام 87. و { الّذين آتيناهم الكتاب } خبر عن اسم الإشارة. والمراد بالكتاب الجنس أي الكتب. وإيتاء الكتاب يكون بإنزال ما يكتب، كما أنزل على الرسل وبعضضِ الأنبياء، وما أنزل عليهم يعتبر كتاباً، لأنّ شأنه أن يكتب سواء كتب أم لم يكتب. وقد نصّ القرآن على أنّ إبراهيم كانت له صُحُف بقولهصحف إبراهيم وموسى } الأعلى 19 وكان لعيسى كلامه الذي كتب في الإنجيل. ولداوود الكلام الصادر منه تبليغاً عن الله تعالى، وكان نبيئاً ولم يكن رسولاً، ولسليمان الأمثال، والجامعة، والنشيد المنسوب في ثلاثتها أحكامٌ أمر الله بها. ويقال إنّ إدريس كتب الحكمة في صحف وهو الّذي يُسمّيه الإسرائليون أخنوخ ويدعوه القبط توت ويدعوه الحكماء هُرْمس. ويكون إيتاء الكتاب بإيتاء الّنبيء فهْم ونبيِينَ الكتب المنزّلة قبله، كما أوتي أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى أمثال يحيى فقد قال تعالى لهيا يحيى خذ الكتاب بقوّة } مريم 12. والحُكم هو الحكمة، أي العلم بطرق الخير ودفع الشرّ. قال تعالى في شأن يحيىوآتيناه الحكم صبياً } مريم 12، ولم يكن يحيى حاكماً أي قاضياً، وقد يفسّر الحكم بالقضاء بالحقّ كما في قوله تعالى في شأن داوود وسليمانوكلاً آتينا حُكماً وعلماً } الأنبياء 79. وإيتاء هذه الثلاث على التّوزيع، فمنهم من أوتي جميعها وهم الرسل منهم والأنبياء الّذين حكموا بين النّاس مثل داوود وسليمان، ومنهم من أوتي بعضَها وهم الأنبياء غير الرّسل والصّالحون منهم غير الأنبياء، وهذا باعتبار شمول اسم الإشارة لآبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم. والفاء في قوله { فإن يكفر } عاطفة جملة الشّرط على جملة { أولئك الّذين آتيناهم الكتاب } عقّبت بجملة الشّرط وفرّعت عليها لأنّ الغرض من الجمل السابقة من قولهوإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } الأنعام 74 هو تشويه أمر الشرك بالاستدلال على فساده بنبذ أهل الفضل والخير إيّاه، فكان للفاء العاطفة عقب ذلك موقع بديع من أحكام نظم الكلام. وضمير { بها } عائد إلى المذكورات الكتاب والحكم والنّبوءة. والإشارة في قوله { هؤلاء } إلى المشركين من أهل مكّة، وهي إشارة إلى حاضر في أذهان السّامعين، كما ورد في حديث سؤال القبر " فيقال له ما علمك بهذا الرجل " يعني النّبيء صلى الله عليه وسلم. وفي «البخاري» قال الأحنف بن قيس ذهبتُ لأنصر هذا الرجل يعني عليّ بن أبي طالب. وقد تقصيت مواقع آي القرآن فوجدته يعبّر عن مشركي قريش كثيراً بكلمة هؤلاء، كقوله

السابقالتالي
2