فيه إحدى عشرة مسألة: الأولى ـ قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } لا خلاف أن الذين تبوَّءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها. «وَالإْيمَانَ» نصب بفعل غير تبوّأ لأن التبوّء إنما يكون في الأماكن. و { مِن قَبْلِهِمْ } «مِنْ» صلة تبوّأ والمعنى: والذين تبوّءوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه لإن الإيمان ليس بمكان يتبوّأ، كقوله تعالى:{ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [يونس:71] أي وادعوا شركاءهم ذكره أبو عليّ والزمخشريّ وغيرهما. ويكون من باب قوله: عَلَفْتُهَا تِبناً وماءً بارداً. ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: تبوّءوا الدار ومواضع الإيمان. ويجوز حمله على ما دل عليه تبوّأ كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما. ويجوز أن يكون تبوّأ الإيمان على طريق المثل كما تقول: تبوّأ من بني فلان الصميم. والتبوُّء: التمكن والاستقرار. وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم. الثانية ـ: واختلف أيضاً هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة فتأوّل قوم أنها معطوفة على قوله: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض. ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه لأن الله تعالى يقول: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } إلى قوله ـ { ٱلْفَاسِقِينَ } فأخبر عن بني النضير وبني قَيْنُقاع. ثم قال: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يُوجف عليه حين خَلّوه. وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر. ثم قال: { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وهذا كلام غير معطوف على الأول. وكذا { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم فإنهم سلّموا ذلك الفيء للمهاجرين وكأنه قال: الفيء للفقراء المهاجرين، والانصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء. وكذا. { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ابتداء كلام والخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا }. وقال إسماعيل ابن إسحاق: إن قوله { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا } معطوف على ما قبل، وأنهم شركاء في الفيء أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوّءوا الدار. وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية{ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ } [التوبة:60] فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ{ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ }