الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

فيه إحدى عشرة مسألة: الأولى ـ قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } لا خلاف أن الذين تبوَّءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها. «وَالإْيمَانَ» نصب بفعل غير تبوّأ لأن التبوّء إنما يكون في الأماكن. و { مِن قَبْلِهِمْ } «مِنْ» صلة تبوّأ والمعنى: والذين تبوّءوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه لإن الإيمان ليس بمكان يتبوّأ، كقوله تعالى:فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [يونس:71] أي وادعوا شركاءهم ذكره أبو عليّ والزمخشريّ وغيرهما. ويكون من باب قوله: عَلَفْتُهَا تِبناً وماءً بارداً. ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: تبوّءوا الدار ومواضع الإيمان. ويجوز حمله على ما دل عليه تبوّأ كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما. ويجوز أن يكون تبوّأ الإيمان على طريق المثل كما تقول: تبوّأ من بني فلان الصميم. والتبوُّء: التمكن والاستقرار. وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم. الثانية ـ: واختلف أيضاً هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة فتأوّل قوم أنها معطوفة على قوله: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض. ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه لأن الله تعالى يقول: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } إلى قوله ـ { ٱلْفَاسِقِينَ } فأخبر عن بني النضير وبني قَيْنُقاع. ثم قال: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يُوجف عليه حين خَلّوه. وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر. ثم قال: { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وهذا كلام غير معطوف على الأول. وكذا { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم فإنهم سلّموا ذلك الفيء للمهاجرين وكأنه قال: الفيء للفقراء المهاجرين، والانصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء. وكذا. { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ابتداء كلام والخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا }. وقال إسماعيل ابن إسحاق: إن قوله { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا } معطوف على ما قبل، وأنهم شركاء في الفيء أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوّءوا الدار. وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآيةإِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ } [التوبة:60] فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأوَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8