الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

{ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } أي: دار الهجرة، أي: توطنوها { وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } أي: من قبل مجيء المهاجرين إليهم. وعطف (الإيمان) قيل: بتقدير عامل. أي: وأخلصوا الإيمان. وقيل: استعمل التبوؤ في لازم معناه، وهو اللزوم والتمكّن. والمعنى: لزموا الدار والإيمان. وجوّز أيضاً تنزيل الإيمان منزلة المكان الذي يتمكّن فيه، على أنه استعارة بالكناية، ويثبت له التبوؤ على طريق التخييل.

{ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي: لوجود الجنسية في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء.

قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا، مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرُّم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر، كما قيل:
يا أخي! واللَّبيب، إن خانَ دهرٌ،   يستبين العدوَّ ممن يحبُّ
{ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ } أي: في أنفسهم { حَاجَةً } أي: طلباً أو حسداً { مِّمَّآ أُوتُواْ } أي: مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، لسلامة قلوبهم، وطهارتها عن دواعي الحرص. { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي: حاجة وفاقة.

قال القاشانيّ: لتجرّدهم وتوجّههم إلى جناب القدس، وترفّعهم عن موادّ الرجس، وكون الفضيلة لهم أمراً ذاتياً باقتضاء الفطرة، وفرط محبة الإخوان بالحقيقة، والأعوان في الطريقة. فتقديمهم أصحابهم على أنفسهم، لمكان الفتوّة، وكمال المروّة، ولقوة التوحيد، والاحتراز عن حظ النفس.

تنبيه

في (الإكليل): في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. انتهى.

وقال ابن كثير: هذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله بقوله تعالى:وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [الإنسان: 8] وقوله:وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } [البقرة: 177] فإن هؤلاء تصدّقوا، وهم يحبون ما تصدّقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه، ولا ضرورة به. وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تَصَدُّق الصِّدِّيق رضي الله عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " ما أبقيت لأهلك؟ " فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله! " وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليَرْموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل، أحوج ما يكون إلى الماء، فردّه الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.

{ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } أي: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق. { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي: الفائزون بالسعادتين. وفي إضافة الشُّح إلى النفس إشارة لما قاله القاشانيّ من أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخُلُق دنيء. والشح من غرائزها المعجونة في طينتها، لملازمتها الجهة السفلية، ومحبتها الحظوظ الجزئية، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها. ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور، من عصمه الله.

السابقالتالي
2