الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ }

{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي: حسناته في الميزان { فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم } بالعقوبة { بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } أي: يكفرون.

تنبيهات

الأول: قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية ذكر الميزان، ويجب الإيمان به. انتهى.

وقال الإمام الغزاليّ في (المضنون): تعلّق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور. وبالموت ينكشف الغطاء، كما قال تعالى:فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } [ق: 22]، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده، وهي مقادير تلك الآثار، وإن بعضها أشد تأثيراً من البعض، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سبباً يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد. فحدّ الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان، ومثاله في العالم المحسوس مختلف، فمنه الميزان المعروف، ومنه القبان للأثقال، والاصطرلاب لحركات الفلك والأوقات، والمسطرة للمقادير والخطوط، والعَروض لمقادير حركات الأصوات. فالميزان الحقيقيّ، إذا مثله الله عز وجل للحواس، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها. فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان. وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل، وللخيال عند التمثيل، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات، والتصديقُ بجميع ذلك واجب. انتهى.

الثاني: الذي يوضع في الميزان يوم القيامة. قيل: الأعمال وإن كانت أعراضاً إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً.

قال البغوي: يروى هذا عن ابن عباس، كما جاء في (الصحيح) " أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف ".

ومن ذلك في (الصحيح): قصة القرآن، " وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك. " ، وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: " فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون، طيّب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح " وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى:وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [التوبة: 49]، وقوله تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } الآية [النساء: 10]. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: " إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ولا بعد في ذلك. ألا يرى أن العِلْمَ يظهر في عالم المثال على صورة اللبن.

وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن، ويؤيده حديث البطاقة، فقد أخرج أحمد والترمذي، وصححه، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

السابقالتالي
2 3