الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ }

استئناف بيانيّ ناشىء عن قولهولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر } القمر 4 فإن من أشهرها تكذيب قوم نوح رسولهم، وسبق الإِنباء به في القرآن في السور النازلة قبل هذه السورة. والخبر مستعمل في التذكير وليفرع عليه ما بعده. فالمقصود النعي عليهم عدم ازدجارهم بما جاءهم من الأنباء بتعداد بعض المهمّ من تلك الأنباء. وفائدة ذكر الظرف { قبلهم } تقرير تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أن هذه شنشنة أهل الضلال كقوله تعالىوإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } فاطر 4 ألا ترى أنه ذكر في تلك الآية قوله { من قبلك } نظير ما هنا مع ما في ذلك من التعريض بأن هؤلاء معرِضون. واعلم أنه يقال كذَّب، إذا قال قولاً يدل على التكذيب، ويقال كذّب أيضاً، إذا اعتقد أن غيره كاذب قال تعالىفإنهم لا يكذبونك } الأنعام 33 في قراءة الجمهور بتشديد الذال، والمعنيان محتملان هنا، فإن كان فعل { كذبت } هنا مستعملاً في معنى القول بالتكذيب، فإن قوم نوح شافهوا نوحاً بأنه كاذب، وإن كان مستعملاً في اعتقادهم كذبه، فقد دلّ على اعتقادهم إعراضهم عن إنذاره وإهمالهم الانضواء إليه عندما أنذرهم بالطوفان. وعُرِّف { قوم نوح } بالإِضافة إلى اسمه إذ لم تكن للأمة في زمن نوح اسم يعرفون به. وأسند التكذيب إلى جميع القوم لأن الذين صدقوه عدد قليل فإنه ما آمن به إلا قليل، كما تقدم في سورة هود. والفاء في قوله { فكذبوا عبدنا } لتفريع الإِخبار بتفصيل تكذيبهم إياه بأنهم قالوا { مجنون وازدجر } ، على الإِخبار بأنهم كذّبُوه على الإِجمال، وإنما جيء بهذا الأسلوب لأنه لما كان المقصود من الخبر الأول تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فرّع عليه الإخبار بحصول المشابهة بين تكذيب قومِ نوح رسولهم وتكذيب المشركين محمداً صلى الله عليه وسلم في أنه تكذيب لمن أرسله الله واصطفاه بالعبودية الخاصة، وفي أنه تكذيب مشوب ببهتان إذ قال كلا الفريقين لرسوله مَجنون، ومشوب ببذاءة إذ آذى كلا الفريقين رسولهم وازدجروه. فمحل التفريع هو وصف نوح بعبودية الله تكريماً له، والإِخبار عن قومه بأنهم افتروا عليه وصفَه بالجنون، واعتدوا عليه بالأذى والازدجارِ. فأصل تركيب الكلام كذبت قبلهم قوم نوح فقالوا مجنون وازدجر. ولما أريد الإِيماء إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء جعل ما بعد التسلية مفرعاً بفاء التفريع ليظهر قصد استقلال ما قبله ولولا ذلك لكان الكلام غنياً عن الفاء إذ كان يقول كذبت قوم نوح عبدنا. وأعيد فعل { كذَّبوا } لإِفادة توكيد التكذيب، أي هو تكذيب قويّ كقوله تعالىوإذا بطشتم بطشتم جَبارين } الشعراء 130 وقولهربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } القصص 63، وقول الأحوص
فإذا تزول تزول عن متخمط تُخشى بوادِره على الأقران   

السابقالتالي
2