الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

الأظهر أن { الذين } عطف علىالمهاجرين } الحشر 8 أي والذين تبوّؤا الدار. والذين تبوّؤا الدار هم الأنصار. والدّار تطلق على البلاد، وأصلُها مَوضع القبيلة من الأرض. وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمودفأصبحوا في دَارهم جاثمين } الأعراف 78، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود. والتعريف هنا للعهد لأن المراد بالدار يثرب، والمعنى الذين هم أصحاب الدار. هذا توطئة لقوله { يحبون من هاجر إليهم }. والتبوُّء اتخاذ المباءة وهي البُقعة التي يَبوء إليها صاحبها، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله. وفي موقع قوله { والإيمان } غموض إذ لا يصح أن يكون مفعولاً لفعل تبوَّءوا، فتأوله المفسرون على وجهين أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإِيمان بالمَنْزل وجعْل إثبات التَّبَوُّءِ تخييلاً فيكون فعل تبوأوا مستعملاً في حقيقته ومجازه. وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملاً مقدراً يدلّ عليه الكلام، تقديره وأخلصوا الإِيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف
علفتها تبناً وماءً بارداً   
وقول عبد الله بن الزِّبَعْرَى
يا ليت زوجَكِ قد غدا متقلداً سيفاً ورمحاً   
أي وممسكاً رمحاً وهو الذي درج عليه في «الكشاف». وقيل الواو للمعية. و { الإِيمانَ } مفعول معه. وعندي أن هذا أحسن الوجوه، وإن قلّ قائلوه. والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعياً فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخريج آيات القرآن عليه حتى ادعى ابن هشام في «مُغني اللبيب» أنه غير واقع في القرآن بيقين. وتأول قوله تعالىفأَجمِعُوا أمرَكم وشركاءَكم } يونس 71، ذلك لأن جمهور البصريين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العاملَ في الاسم الذي صاحَبَه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافاً للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى مع. وقال عبد القاهر منصوب بالواو. والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولاً للفعل، ألا ترى صحة قول القائل استوى الماء والخشبةَ. وقولهم سرْتُ والنيلَ، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارُهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذٍ غيرها. وبذلك يتضح أن متعلق { من قبلهم } فعل { تبوؤا } بمفرده، وأن المجرور المتعلق به قيدٌ فِيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو المعية في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور. وفي ذكر الدار وهي المدينة مع ذكر الإِيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبوّءهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإِيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن وهب قال سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق. فقال إن المدينة تبوّئت بالإِيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ { والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم } الآية.

السابقالتالي
2 3 4